تاااااااابع
-4-
في متوسطة فيصل بن تركي كانت التجربة قوية إذ أن لمدرس الدين صالح القاضي حضوة قوية في المدرسة فالمدير وبقية المدرسين يخشونه خشية كبيرة ويطيعون كل أوامره، وله غرفة خاصة يسميها غرفة الجماعة الإسلامية، يلقى فيها دروس الدين؛ فهو يرى أن قراءة القرآن في الفصل لاتعطيه الوقار اللائق به لهذا فالطلاب ينزلون الى حجرته في حصص القرآن ليجلسوا بطريقة معينة تشبه طريقة الأوائل؛ وهناك استريو كبير يسمع فيه الطلاب القرآن والمواعظ.
وكانت هذه الغرفة مكاناً يجلس فيه بعض الطلاب بعد الدوام وتعقد فيها لقاءات بعد الدوام واستمرت هذه الحجرة مكانا سريا لايسمح بدخوله إلا عن طريق المدرس صالح القاضي حتى حصلت فضيحة استدعت تدخل الشرطة. والقصة بدأت حينما فُقد الاستريو من الغرفة وقام صالح القاضي باتهام مدير المدرسة بأخذ الاستريو ولكن المدير رفض ذلك واتصل على الشرطة الذين حضروا أثناء الدوام ولكنهم لم يجدوا النافذة ولاالباب مكسوراً، مما رجح أن الفاعل هو ممن يملكون مفتاحاً للغرفة. وبعد حصر الذين معهم مفتاح للغرفة وكان من بينهم طالب جامعي يحضر للمدرسة -بسبب علاقته بالأنشطة بعد الدوام- ويعتقد أنه متدرب يدعى عائض وطالب في ثالث متوسط يدعى الخميس؛ واعترف الخميس أنه أعطى نسخة من المفتاح لطالب سوري آخر. وبعد التحقيق اتضح أن عائض قد دخل ذات مرة بعد العصر ووجد الطالبين يمارسان الفاحشة في الغرفة وقد أغلقا على أنفسهما الباب؛ واشترط لكي لايفضحهما أن يمكناه من نفسيهما؛ وهذا الشخص هو الآن محاضر في قسم الدراسات الإسلامية بإحدى الجامعات وله فتاوي ومقالات دينية. الطالب السوري طلب من أحد رفاقه السوريين مساعدته في حمل الاستريو ذات يوم بعد الدوام لأنهم يستطيعون فتح باب المدرسة الخارجي ثم الدخول إلى الغرفة؛ وقد اعترف الطالب السوري بذلك بسهولة. وانتقل الموضوع إلى إدارة التعليم التي ترفض وجود غرفة مخصصة بهذا الشكل ونقلوا مدير المتوسطة وصالح القاضي إلى مدارس أخرى تأديباً لهما.
من خلال المخيمات في الثمامة تعرفت عن قرب على سليمان الخراشي؛ فقد صار قائداً، ويسمونه "أمير" وألقى عدة محاضرات، وأتذكر أنني تحمست في إحدى جلساته وكنت أتساءل بحرقة عن سبب دعم الحكومة للعلمانيين كما يقول المحاضر، وكان يرد علي بابتسامة ويقول بأن الفرج قريب بمشيئة الله.
ويبدو أن حماسي قد أعجبه أو أن سذاجتي وبساطة منطقي قد لاقى استحساناً منه، فسلم علي وسألني عن اسمي وعائلتي وبلدتي وبارك لي الانضمام لشباب الصحوة المبارك. فيما بعد اقترح علي أن أنضم إلى إحدى المكتبات في المساجد. ومضت مدة طويلة لم أره فيها ولاأعرف عنه معلومات كثيرة فأنا بطبعي خجول ولاأتجرأ على الأسئلة الشخصية. وخلال هذه المدة صرت عضواً في مكتبة مسجد الشيخ الطريري ثم صرت مشرفاً على مكتبة مسجد بحي النخيل؛ وسكان الحي من الأثرياء وكان عدد الطلاب لايتجاوز السبعة. لم أكن أعلم بأنني تابع للشيخ سليمان الخراشي فقد كانت تصلني المنشورات والكتيبات من خلال اجتماعنا في مسجد الكلباني كل ثلاثاء؛ فهناك مكتبة كبيرة نلتقي فيها ونعرف البرنامج المطلوب تنفيذه للأسبوع القادم. وهناك مجموعة منشورات وكتيبات مصفوفة نأخذ منها على عدد طلابنا، وهناك شخص سوري يتكلم بلهجة حجازية وهو نائب الكلباني في الصلاة هو الذي يملي علينا خطة الأسبوع.
كان علي أن أطلع على المنشورات والكتيبات قبل توزيعها كل أربعاء على الطلاب؛ وكانت ملخصات لكتب سيد قطب وبعضها نقولات من الكوثري، ومن محمد بن سرور ومن المودودي والترابي، وكتيبات الطريري والعمر والعودة والحوالي وعبدالرحمن عبدالخالق وعبدالفتاح أبوغدة، وقصائد للعشماوي وللقرني وأتذكر من تلك الكتب:[ كتب وشخصيات، وقفات تربوية، السنة النبوية، سر تأخر العرب والمسلمين، قل هذه سبيلي، مذكرات الدعوة والدعية، الأخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، شهيد المحراب، خطوط رئيسية لبعث الأمة الإسلامية، صناعة الحياة، تربيتهم الروحية، فقه الواقع، وغيرها.
وأذكر أني اجتهدت مرة واقترحت كتاب القرضاوي عن العبادة في الإسلام ولاحظت أن وجيههم قد تجهمت وقيل لي بأنه لايصلح. وفيما بعد عرفت أن المادة التي نعطيها للطلاب في المكتبات هي مادة منتقاة ذات طابع يحث على العنف والتمرد على الدولة وفي الوقت نفسه يغرس فكرة طاعة الأمير أو الشيخ والرجوع إليه في كل أمر. وهو مالاحظته فعلاً كسمة واضحة لدى طلاب المراكز والمخيمات وكيف أن الطالب يأتي ويجلس أمام شيخه بطريقة توحي بالوقار والتعظيم ويستشير الشيخ في موضوع يخص أسرته وبمجرد نطق الشيخ بالرأي حتى يصبح حكماً نهائياً يطيعه الطالب ولايناقشه فيه. قال لي طالب أن لديه مشكلة مع أمير الجماعة وطلب مني التوسط له، وكانت المشكلة أن المدرس /الأمير قد غضب على الطالب لأنه لم يستشره حينما سافر مع أهله للشرقية الأسبوع الماضي، وذهبت بسذاجة للتوسط ولكني فوجئت بتجهم المدرس وهو يقول لي: أنا أبخص ولو سمحت لاتتدخل في هالأمور. فيما بعد علمت أن هذه سياسة يقوم بها الأمير لإجبار أتباعه على طاعته العمياء والكشف عن أي تصرف يقومون به وأخذ رأي الأمير في ذلك.
ظللت مستمتعاً بالمكتبات وحضور الندوات وانقطعت نهائياً عن الذهاب إلى الجامعة ولم أحضر أي مادة مما جعلهم يطردونني من السكن وطوي قيدي في نهاية العام، فلما علم سليمان الخراشي بذلك قال: هذا خير لك وعينني مؤذنا في مسجد بحي الخليج فيه سكن مجاني. للشيخ سليمان "أبو صهيب" واسطة لايمكن تصديقها فهو قادر على تدبير أمر أي شخص إذا أراد؛ ويقول عنه الشباب بأن الله حباه محبته وسخر له القوم. كان يُدفع لي ألفان ريال شهريا، وكنت أصرفها على الأكل وشراء الكاسيتات.
قيل لي في أحد لقاءاتنا يوم الثلاثاء في مسجد الملك خالد بأم الحمام بأن الشيخ سليمان يسأل عني. وعلي أن أذهب لمقابلته في مخيم قريب. ذهبت مع أحدهم ووصلنا إلى استراحة صغيرة يٌقال بأنها لإبراهيم الحديثي؛ فإذا الشيخ سليمان هناك، قدم لي تمر وقهوة وذهب الذي أوصلني وقال بأنه سيعود بعد ساعة. قال لي سليمان: هل تعرف الخبيث عبدالعزيز العسكر؟ قلت لا. ثم راح يشرح لي أنه دكتور في جامعة الإمام وأنه ضد المتدينين وضد نظام المكتبات وأنه مقرب من الشيخ ابن باز وهذه مصيبة لأن ابن باز قد ينقل أفكاره للحكومة، ثم قال نريد التخلص منه لأنه عدو الصحوة المباركة، هو وعبدالله العبيلان في حائل، لكن هذا في الدرعية قريب.
أعداء الصحوة المباركة؛ كرر هذه الجملة عدة مرات. ثم طلب مني طلباُ لاأستطيع الإفصاح عنه هنا مادام أنه لم ينفذ.. دخلني الرعب فقلت: ماأعرف؟ قال: لاعليك بكره جواز سفرك يكون جاهز ورايح يطلع أحد الإخوة على بيته في الدرعية؛ ويكفي أن تراقبه يوم أو يومين لتعرف وقت خروجه لصلاة الفجر؛ وبمجرد ماتنفذ الأمر تتوجه بسيارة خاصة راح نعطيك إياها إلى صلبوخ وهناك شخص يأخذك ويوصلك المطار لتتجه إلى السودان والأخوان هناك مجهزين وضعك، وهذي ستة ألاف لك، ووضع حزمة الفلوس أمامي ثم أخذها. وأضاف كل شيء جاهز وماعليك إلا أروح معك للبر بكره أو بعده لكي تزول رهبة ذلك الشيء من نفسك. لم يعطيني أي فرصة للرد أو الاعتذار أو الاستفسار، كان يقرر، كان يملي علي مايجب علي عمله وكفى. ونبهني بأنني تابع له وهو أميري ويجب علي تنفيذ أمره وذكر لي آية التولي يوم الزحف.
وفي هذه اللحظات جاء الشخص الذي أوصلني فقلت له: ماودك نمشي تأخرنا، فقال هيا، كنت أريد التخلص من هذا المأزق؛ فسلمت على سليمان الذي قبض على يدي وقال: ترانا على وعدنا وجعل يدي تلمس جيبه التي فيها الفلوس؛ وخرجت من تلك الاستراحة وقلبي يرتجف. وفيما بعد علمت أن هناك من حاول الاعتداء على الشيخ العبيلان في مدينة حائل أثناء خروجه لصلاة الفجر وقد اُعتقل المُنفذ وسلِم الشيخ!
لم أنم تلك الليلة والليالي التي عقبتها من الخوف والوجل والشعور بالورطة وعينا سليمان اللتان تقدحان الشرر ترافقان كل لحظاتي؛ حتى وأنا أكتب الآن عن هذا الموضوع الذي مضى عليه مايقرب من العشر سنوات إلا أن صورة عينية الحادة ظلت من الأشياء العالقة في ذاكرتي والتي تُرعبني. يوم الثلاثاء القادم التقيت بسليمان في جامع الملك خالد وأخبرته برفضي لتنفيذ فكرته؛ فرد علي مبتسماً تلك الابتسامة المصطنعة: والله إنك قروي صحيح وإنت صدقت مزحي معك؟ كنت أبغى أجسك هل إنت ذيب وإلا سبع، وطلعتَ سبع الذيب!!
لم يُخفف قوله هذا من قلقي النفسي ولكنه قدم لي حلا كنت أبحث عنه في تلك اللحظة؛ وقلت له بأنه يجب عليّ أن أنتهي من حفظ القرآن الكريم فلم يبق علي سوى ثمانية أجزاء. لقد سخّرت وقتي مابين المكتبة ومابين حفظ كتاب الله؛ وكان تقدّمي في حفظ القرآن يُعطيني دفعة عاطفية قوية لاأشعر معها أنني فشلت في دراستي في الجامعة.