تاابع ؛؛
-2-
من الغد اجتمعنا في البهو الرئيسي بعد صلاة الظهر وتقدمنا عبدالعزيز إلى مكتب عميد القبول والتسجيل آنذاك د.عبدالله الحمدان. انتظرنا عند السكرتير طويلا حتى ظهر سكرتير آخر من مكتب الحمدان يخبرنا بأنه لن يدخل على العميد سوى ثلاثة شريطة أن يكتبوا مايريدون في ورقة. بالطبع قرر عبدالعزيز الدخول مع اثنين وكتبوا على عجل خطاب يطالب بإيقاف إهانة الإسلام في الجامعة مثل إغلاق مصلى الشيعة ومنع الموسيقى في المسرح وإلغاء أجراس تحديد المحاضرات وتحديد زمن لدخول الطلاب للسكن لايتجاوز الساعة 12 ليلاً. دخلوا بها ولم يلبثوا طويلا حتى خرجوا علينا يقولون بأنه وعدهم بعرض الموضوع على مدير الجامعة التركي. وبعد فترة طويلة منع الشيعة من الصلاة وألغيت الموسيقى من المسرح وتعطلت الأجراس فترة ثم عادت ؛ كما إن تحديد مواعيد دخول طلاب السكن قد تأخر كثيراً ولم يحصل إلا بعد فترة طويلة قابله الطلاب بالمظاهرات وألغي القرار بعد تدخل الشرطة وقوات الأمن لقمع المظاهرة واعتقال المشاركين فيها!
كان هناك في قسم المناهج وطرق التدريس بكلية التربية دكتور لاأعرفه اسمه عثمان البريكان؛ كان يجمع الطلاب في مكتبه أو في مصلى القسم ويؤلبهم ضد الشيعة. وقد أوصى الطلاب بعدم حضور محاضرة دكتور شيعي وأنه سوف يتكفل بالدرجات شخصيا لأن له حضوة عند عميد الكلية أحمد التويجري؛ الذي ألقى فيما بعد محاضرة قوية ضد الشيعة تدخلت الشرطة بعد ذلك لأخذه والتحقيق معه. وكانت من نتائج تأليب البريكان أن قام طالب بكلية الطب بإيقاف الدكتور محمد رضا الشخص من قسم اللغة العربية يقال بأنه شيعي؛ أوقفه في مواقف السيارات خارج الكلية وأشبعه ضرباً وفك حنكه العلوي ثم فر هارباً إلى قريته في القصيم ولم يعد إلى الجامعة فيما بعد رغم أن الدكتور سامحه وتنازل عن حقوقه الشخصية، وسمعنا أنه التحق بأفغانستان بعد فترة طويلة.
مضت فترة وأنا مواظب على حضور الدروس التي تعقد في جامع الملك خالد بأم الحمام ومن هناك تعرفت على عدد من الشباب والذين يطلقون على أنفسهم مُسمى شباب الصحوة. في تلك الأثناء حصلت حرب الخليج وبدأ الأمركيان يفدون إلى السعودية ولم يكن في ذهني أي شيء ضدهم حتى استمعت إلى محاضرة قوية لسلمان العودة عن اليهود والنصارى ومن بعدها تأثرنا بتلك المحاضرة وماتبعها من محاضرات للعمر وللطريري وللحوالي وغيرهم؛ وقد بقيت تلك مجرد أفكار عابرة ولكن الذي أججها مظاهرة النساء لقيادة السيارة فقد ألقى الكلباني خطيب جامع الملك خالد آنذاك خطبة طالب فيها الملك فهد بقطع روؤس هؤلاء النسوة لاجتثاث الفساد استناداً إلى أن النبي موسى قد قتل الغلام خشية من فتنته حينما يكبر! ثم استضاف الشيخ عائض القرني الذي كرر نفس مطالب الكلباني في محاضرة حاشدة.
حثنا الشيخ الكلباني والطريري وفيما بعد سعد البريك و سليمان الخراشي على توزيع مصورات كتبوها بأسماء اللاتي شاركن في المظاهرة وأسماء وظائفهن وأزواجهن وتوزيعها في المحلات وفي المدارس وعند الإشارات.. كنا في حماس منقطع النظير ونحن نقوم بذلك. كنت لاأعود إلى البيت إلا بعد منتصف الليل، العمل والحماس يحدوني لكي أبقى أوزع المنشورات؛ والتي بدأت تزداد حينما كتب عائض القرني فيما بعد ماسماه "في عين العاصفة" ردا على زاوية غازي القصيبي التي كان ينشرها في الشرق الأوسط واتهمه فيها بالعلمانية؛ وكانت هذه المرة الأولى التي أسمع هذه الكلمة.
فيما بعد دار خصام شديد بين أخوين كنا في منزلهم لتناول العشاء؛ فقد كان الأخ الأكبر معجباً بالقصيبي ولكن أخاه الأصغر يؤكد بأنه علماني خبيث؛ زادت المشادة لأننا وقفنا كلنا ضد القصيبي حتى أنني وثلاثة من المعزومين خرجنا تلك الليلة دون تناول العشاء من باب أننا لايمكن الجلوس في منزل يقال فيه منكر!
فيما بعد أتيحت لي فرصة لقراءة كتاب القصيبي الذي وزع سرا وكان بعنوان " حتى لاتكون فتنة" ووضع الإهداء فيه إلى الشيخ ابن باز ، والقاريء للكتاب يلمح وكأن الكتاب موجه إلى الملك فهد. ولكن هذه الفرصة لم تتح لي إلا بعد أكثر من عام على حادثة العشاء التي ذكرتها. وخلال هذه الفترة جرت عدة تغييرات على فكري ولاأنكر أن كتاب القصيبي نفسه لعب دوراً مهماً في إعمال عقلي لكي أعرفه ومن خلاله عرفت فكر من أعيش معهم.
يتبع ......
تاابع ..
التحقت بجوالة الجامعة، بعد أن وصلت سمعتها ونشاطها إلى أكثر الطلاب داخل الجامعة وخارجها. كانت الجوالة تأخذ ميزانية ضخمة من الجامعة ولها مخيمات خارج الرياض وفي بعض المدن كالطائف وأبها. لم أكن أُحسن التمثيل ولكن ليس التمثيل وحده هو الذي تقوم به الجوالة؛ الناس يعرفون التمثيل أكثر لأن الجوالة تعمل حفلات كثيرة في مسرح الجامعة وتقدم عروضا مسرحية للجمهور؛ وكانت تلك المسرحيات تقوم على فكرة إسلامية تتعلق إما بالجهاد ضد الدشوش التي انتشرت في تلك الفترة، أو بالكشف عن الأفكار العلمانية في الجامعة ومطالبة الجامعة بالتدخل؛ وبعض تلك المسرحيات تصور مجتمعنا بأنه مجتمع جاهلي لافرق بينه وبين العصر الجاهلي سوى هذه الآلات المستخدمة ولكنه من حيث التدين جاهلي. وهذه الأفكار منتشرة بقوة لدى الجوالة وأعضائها وفيما بعد في مكتبات المساجد التي اشتركت فيها؛ حتى أنني كنت حينما أسافر لزيارة أمي أظل أفكر بأنني شخص مختلف عن هذا المجتمع وأتعاطف مع أمي المسكينة بأنها جاهلية في عقيدتها وحاولت أصحح لها طريقة السجود وطريقة الجلوس بين السجدتين فهي لاتجلس بينهما ولكنها لم تأبه بكلامي.
كنت مؤمناً بقوة بأنني شخص أنتمي إلى مجتمع آخر ليس هذا المجتمع بكل تأكيد، كنت أحلم بدولة إسلامية تقام فيها الخلافة الإسلامية كما كانت في عهد الرسول والخلفاء الراشدين؛ وكنت أمنّي نفسي بخيالات أرى فيها زوال هذا المجتمع بحكومته وناسه الراضين بهذه الجاهلية. يظهر لي الآن وأنا أتذكر حالي أن هذه الأفكار قد تسربت إلي بعد قراءة كتب سيد قطب كمعالم على الطريق وغيره والإدمان على كاسيتات سلمان العودة وناصر العمر والطريري. لقد كنا نتصور أن وجودنا مؤقت وأن الأمور سوف تتبدل بلاشك، ولو أن حكومة طالبان ظهرت في ذلك الوقت لهاجرت إليها بلاتردد؛ فقد كانت تمثل لنا الأنموذج الكامل للدولة الإسلامية.
ومن المواقف لتي لاتُنسى هي أننا قمنا بحملة ضد العلمانيين في الجامعة من الدكاترة، وكنا نتزود بأسمائهم كل يوم والقائمة تطول ولكن من أشهر من كان عليها: د/سعد البازعي من قسم اللغة الانجليزية، ود/عبدالله المعيقل من قسم اللغة العربية، و محمد العثيم من قسم الإعلام، ود/أحمد العويس ود/عبدالله الجريان من قسم الكيمياء، ود/عبدالله الغذامي من اللغة العربية، ود/ محمد أل زلفة من التاريخ ود/ سعد الصويان من علم الاجتماع ود/ علي الدغيمان السرباتي ود/محمد قلعة جي من قسم الدراسات الاسلامية، ود/ عبدالرحمن الأنصاري من قسم الآثار؛ وغيرهم.
كان هناك عدد من الطلاب يحضرون هذه المحاضرات ومعهم مسجلات صغيرة يسجلونها، وهناك مدرسون متدينون يحضرون لحضور محاضرات هؤلاء؛ لأن نظام المحاضرة كان مفتوحاً للجميع. وكنا نقوم بكتابة شكوى إلى مدير الجامعة وإلى الشيخ ابن باز ضد هؤلاء لأنهم يعلمون الطلاب الفكر العلماني؛ وكان هناك البعض يقترح ضربهم بعد الدوام، وبالفعل تم ضرب أستاذ مصري في قسم اللغة العربية وأحرقت سيارته. وعلمت فيما بعد أن الدكتور الجريان قد اختفى عن أهله من سنوات ولاأحد يعلم عن مصيره شيئا ولاأدري فإنني أرجح أن أحداً قد خطفه ثم قتله في جبال طويق، فهو يُصرّ على الحديث عن نظرية التطور؛ وكان مدرس في ثانوية النجاشي (ابن باز لاحقا) ثم صار مدير ثانوية فيما بعد يُسمى إبراهيم الربيعة كان يحضر له وقد هدد الدكتور بالقتل. ولاأدري الآن هل عثر على الدكتور الجريان أم أنه ظل مجهول المصير؟ وهناك دكاترة آخرين قد غيروا من نهجهم وصاروا مع المتدينيين كالبازعي والصويان وال زلفة والسرباتي كما طرد آخرين كقلعة جي.
من خلال الجوالة تعرفت على عدد من المدرسين في المدارس المتوسطة والثانوية الذين يحضرون للمشاركة معنا وجلب طلابهم إلى المخيم للالتقاء بالعلماء من مثل: القرني والطريري والعشماوي وآخرين. ومن خلال هؤلاء المدرسين دعوني لأكون ضيفا في حلقاتهم المدرسية التي تعقد في المدرسة بعد الدوام. كانت تجربة ثرية لي حينما حضرت إلى ثانوية الملك فهد بحي الروضة لأكون ضيفاً عند مدرس الدين الشيخ وليد، وكان البرنامج عبارة عن قراءة للقرآن ثم تفسير له من قبل المدرس، بعد ذلك يقوم الطلاب بلعب كرة ثم يعودون لصلاة المغرب، وبعد الصلاة نستمع إلى محاضرة عن طريق الكاسيت ويدور بعدها نقاش حتى صلاة العشاء ثم يأتي دوري لمحاضر أتكلم بموضوع معين حتى يأتي العشاء؛ وكان موضوعي الذي أعددته عن "تحية الإسلام" وبينت من خلال محاضرتي أن استخدام أي عبارة أخرى مخالف للمنهج الإسلامي لأننا ينبغي أن نعيش كالصحابة والتابعين ونسلم على كل أحد حتى لو لم يرد فقد كسبنا الأجر، ثم يجب الرد بالسلام على من ألقى تحية غير إسلامية لتعليمه بخطئه الشرعي. وأذكر أن الطلاب ذكروا أسماء معلمين لايسلّمون عليهم فطلبنا منهم أن ينبهوهم لذلك عن طريق قول "وعليكم السلام" لكي يشعر المعلم بخطئه فإن أبى فلا بد من الإنكار عليه. وبعد العشاء تفرق الطلاب.
كانت هذه التجربة مُحببة لي لهذا استجبت لدعوة مدرسين آخرين في متوسطة ابن الجوزي بالروضة ومتوسطة فيصل بن تركي بحي الملك فهد ومتوسطة العليا ومتوسطة ابن القيم وثانوية القادسية وغيرهن.
يتبع ...