كيف تسرق كتابا محققا ؟
كتاب الكافي للتبريزي أنموذجا !
ولا أعني بسرقة الكتاب هنا أن تضع اسمك عليه بصفتك مؤلفه ، فهذا تصرف سخيف لا يقبله العقل ، ويوازيه سخفا إن غيرت رأيك واكتفيت بالزعم أنك محققه . فإذا تخليت عن هذين الأمرين بعد أن تبين لك قدر سخفهما ، وبقي مع ذلك هاجس السطو عندك متقدا في نفسك فليس لك عندي إلا سبيلان ، أيا منهما تختار فإني أضمن لك به إشباع هاجسك من غير أن تلحقك المسئولية أو أن يواجهك بالمساءلة أحد كائنا من كان . ولكن يشترط منك لإنجاح هذه الغاية شرط واحد لا غير وهو ألا تكون متسرعا وغبيا في الوقت ذاته .
والسبيل الأول لتحقيق ذلك هو سبيل الشرح والتعليق ،أي أن تعمد إلى اختيار كتاب يعج بالكثير من المفردات المهجورة أو المصطلحات الغامضة فتعمل على إيضاحها مستعينا بمعاجم اللغة والمعاني . وأما السبيل الآخر فهو سبيل التهذيب والتيسير وهو أن تعيد صياغة أسلوب الكتاب على نحو يفهمه المتوسطون في العلم . فأيا من هذين السبيلين وجدت نفسك فيه فاسلكه بلا تردد ، وعلى مسئوليتي ، بشرط أن تلتزم بالشرط الذي اشترطته عليك وهو أن تتحلى بالصبر والذكاء .
وتاريخنا العلمي الحافل بمختلف وجوه الأصالة والإبداع لم يكن يخلو في كل عصر من عصوره من عدد وافر من الكتب التي تجتر ما سبقها من إبداعات وتعكف عليها شرحا أو تهذيبا ( وقد تذكرت الآن سبيلا ثالثا ولكني أشك في أنك تمتلك الموهبة أو الصبر عليه .. وهو أن تنظم الكتاب نظما ) !
ولنعد إلى نموذجنا كتاب الكافي في العروض والقوافي للإمام أبي زكريا يحيى بن على الخطيب التبريزي ، وهذا الكتاب كان قد حققه تحقيقا جيدا الأستاذ الحساني حسن عبد الله عام 1966 م ، وكذلك حققه الطالب ( آنذاك ) حميد حسن الخالصي وجعله موضوعا لرسالته في الماجستير من كلية الآداب بجامعة بغداد عام 1970 م وكان واضحا أنه اعتمد في إعادة تحقيقه على مخطوطات غير تلك التي اطلع عليها الحساني . وفي العام نفسه أصدر الدكتور فخر الدين قباوة نشرته لهذا الكتاب باسم الوافي بدلا من الكافي مستندا في هذا الاختيار إلى ما وجده على غلاف إحدى نسخه.
وفي نشرته لكتاب الكافي عام 2003 م عن المكتبة العصرية ببيروت، اختار الدكتور محمد أحمد قاسم السبيل الأول . وكان عمله ـ كما صرح بذلك في مقدمته للكتاب المسروق ـ ضبط المصطلحات وتخريج الأبيات وشرح المصطلحات التي جاءت غامضة ، ومعروف أن هذه وغيرها هي من الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها لأي تحقيق حتى يعد مقبولا في حده الأدنى، لكن تصريح الدكتور قاسم هذا جعلني أشك ، أنا وربما الكثير من الأغبياء مثلى ، في جدوى عمل الحساني من أساسه وفي مدى مصداقية الأستاذ العلامة محمود محمد شاكر في مراجعته لعمل الحساني . لكنني لم ألحظ في مقدمة الدكتور قاسم عرفانا بالجميل في عمله هذا لأحد كائنا من كان ، وهو ما جعلني أعتب عليه في سري لأني كنت عرفت الكثير من الباحثين الذين لم ينسوا أن يذكروا الفضل لأصحابه ، وأتذكر أن منهم من لم ينس خالته نفيسة التي كانت تهيئ له أكواب الشاي ليستعين بها على السهر في تحقيق كتابه . لم يكن ، إذن ، لأحد غير الدكتور قاسم فضل في إتمام عمله يستحق أن يذكره بالخير اللهم إلا أن يكون صاحب الفضل هو ناشر كتابه الذي عرف مدى رواج كتاب التبريزي طوال أربعين عاما فأراد أن تكون له حصة من سوقه الرائجة من غير أن يتكلف دفع حقوق الطبع التي تقرها الشرائع والقوانين .
أما السبيل الثاني فقد اختاره الأستاذ الدكتور حسني عبد الجليل يوسف الذي أخرج كتابا بعنوان " تيسير كافي التبريزي " وأشار إلى جهوده في هذا التيسير بقوله :
" ولهذا ، ولاتصالي الوثيق بعلم العروض تأليفا وتحقيقا وتدريسا - عمدت إلى تناول كتاب الكافي للتبريزي بالفحص والعرض والاستدراك بما لا يخل بالكتاب – بل بما ييسره ويشرحه ويقربه لدارس العروض " .
وقد جانب الحقيقة في عبارته هذه ووافقها جزئيا في موضعين ؛ فأما الموضع الذي جانب الحقيقة المطلقة فهو قوله أنه تناول كتاب الكافي للتبريزي ، إذ الواقع أنه تناول كتاب الوافي للتبريزي الذي حققه الدكتور فخر الدين قباوة متجنبا الإشارة إليه عن عمد لئلا تطاله مسئولية السطو على كتابه ، وأما الموضوع الذي اقترب فيه من موافقة الحقيقة فهو إشارته إلى عدم الإخلال بالكتاب حيث وجدناه قد اعتمد فيه اعتمادا كليا على النقل الحرفي بلا أي بادرة تيسير أو شرح أو تقريب ، فمقدمة التبريزي بأكملها قد استقرت في كتاب الدكتور حسني بلا تيسير ، ثم لحقها باب القوافي بأكمله أيضا لأني لم أجد ناقصا منه إلا قول التبريزي في بيان سبب وضع الكتاب : " وفي هذه الجمل كفاية للمبتدئ بهذا العلم ، وتذكرة للمتوسط فيه " . فإذا قلت : إذا كان الأمر كذلك فلماذا بلغ كتاب التيسير نحو مائة وعشرين صفحة في حين وصل كتاب الوافي إلى مائتين وستة وستين ؟ أجبتك بأن ذلك كان لأنه اضطر إلى حذف قسم كامل من الكتاب وتشذيب أطراف قسم آخر قد طال فاكتفى منه برؤوس أبواب البحور متخليا عن ذيولها . ومعنى ذلك أن تيسيره كان لمصلحة الناشر في تخفيض نفقات الطباعة وليس للتيسير على القارئ الذي ضمن له التبريزي أصلا تيسير هذا الكتاب في العبارة التي أوردناها بأعلاه ، وكان الدكتور حسني قد قام ، سامحه الله ، بحذفها عن سبق إصرار لأنه وجدها تتعارض مع مشروعه الذي أوهمنا بجديته .
وقد يتملكك العجب ( بفتح الجيم ) من قول صاحب التيسير في مقدمة تيسيره :
" وقد أشار محقق كتاب الكافي إلى أن العروض ليس بالعلم اليسير ، فهو يشق على كثير من الناس ، وليس في هذا الزمان فحسب ، بل منذ أزمان وأزمان " .
فهذه العبارة منقولة بقليل من التصرف من كتاب الكافي بتحقيق الحساني ، وهنا يزداد العجب حين نكتشف أن الكتابين ، كتابي الحساني وقباوة ، كانا معا على طاولة الدكتور حسني . فلماذا نراه ترك كتاب مواطنه المصري الحساني واتجه إلي كتاب السوري الحلبي قباوة ؟ أعتقد أن لذلك صلة بقرب الحساني منه وسهولة مقاضاته في موطنه ، وهو نفس التبرير الذي كان للبناني قاسم باختياره لكتاب الحساني دون كتاب قباوة . ولقد وجدت على نسخة كتاب قباوة تحذيرا وضعته دار النشر ينص على أنه
" يمنع طبع هذا الكتاب أو جزء منه بكل طرق الطبع والتصوير ، كما يمنع الاقتباس منه ، والترجمة إلى لغة أخرى ، إلا بإذن خطي من دار الفكر للطباعة والتوزيع والنشر بدمشق " . والآن ألا ترى معي أن هذه العبارة التي تبدو رادعة قد جعلت كلا سارقي كتاب التبريزي يلجأ إلى نسخة من بلد يتعذر فيه مقاضاته ، أم أن الأمر لا يعدو اعتبارها نوعا من " خيال المآته " في الحقول المتروكة بلا ناطور !
وأظننا كنا أشرنا في مقدمة هذه المداخلة إلى ضرورة أن يتحلى سارق الكتاب بالذكاء والروية ، وهذا ما حسب الدكتور قاسم نفسه عليه حين لم يدن قيد أنملة من عمل الحساني كما يظهر في هوامش كتابه ، واختار لمعانيه أن يجلبها من معاجم غير التي نظر فيها الحساني ، ولما رأى الحساني في مقدمة تحقيقه للكافي يقول : " قلّ أن أحلت إلى أكثر من ثلاثة مراجع ، لأن الغرض من التخريج في كتاب كهذا أن يكون عنصرا من عناصر توثيق النص ، والاستقصاء ليس لازما لتحقيق هذا الغرض ، إنما يلزم إذا كان الكتاب في الشعر خاصة ، أو في باب يتطلب الإحاطة بالفروق الدقيقة بين الروايات " ، وجد الدكتور قاسم الفرصة مناسبة له في أن يجعل عمله متميزا عن عمل ضحيته بالقول إنه خرّج الأبيات تخريجا دقيقا عاد فيه إلى الأمهات، ودوايين الشعراء ، وملاحقة الشواهد في مظانها وأنه قد بذل في سبيل ذلك جهودا مضنية لكنها مثمرة بحيث تضاعفت مصادر التحقيق ومراجعه . فكأن الأستاذ الحساني وشيخه العلامة محمود محمد شاكر الذي راجع التحقيق لم يعملا شيئا يستحق الذكر حتى جاء الدكتور قاسم فأعاد الأمور إلى نصابها الصحيح !
ومع ذلك فهو يبدو لي أكثر ذكاء من الدكتور حسني الذي ورّط نفسه أو ورّطه الدكتور قباوة في بعض هوامش تحقيقه التي قدمها له لقمة سائغة التهمها لعجلته في النقل دون ترو . فحين أشار التبريزي في قسم القوافي إلى قوله : " صبرت أم لم تصبرا " سارع الدكتور قباوة بالقول في الهامش : " قسيم بيت جاء على التمام في ح وهو مطلع قصيدة للمتنبي :
باد هواك صبرت أم لم تصبرا ======= وبكاك إن لم تجر دمعك أحمرا "
و( ح ) هذه هي نسخة الحميدية التي اعتمدها قباوة في تحقيقه ، لكن الواضح أنه لم يرجع إلى ديوان المتنبي للتحقق منه ، وكان أن لفت نظري أنه مختلف عما عهدته من مطلع هذه القصيدة المشهورة فعدت إليه في ديوانه بشرح العلامة الشيخ ناصيف اليازجي وعجزه فيه : وبكاك إن لم يجر دمعك أحمرا
ولم يذكر في الشرح أن لهذا البيت رواية أخرى . فانظر كيف تورط الدكتور حسني بأخذه بكلام الدكتور قباوة على عواهنه منساقا بحمى نقله المحموم من الكتاب حتى أنه أدخل هذه الرواية الشاذة للبيت في متن تيسيره وكأنه كان ينقل من نسخة الحميدية نفسها ، فتأمل في هذا التصرف العجيب !
ومن مظاهر تعجل الدكتور حسني وهو يحسب أنه يعمل على تيسير الكتاب لا تشذيب أطرافه فحسب أنه يقف في النص الذي أورده من كلام التبريزي في مبحث سناد التوجيه عند قوله :
" وكان سعيد بن مسعده لا يراه سنادا ، لكثرته في أشعار العرب ، وذلك مثل قول امرئ القيس :
فلا وأبيك ابنةَ العامريّ ===(م)====لا يدّعي القوم أني أفرّ "
ولم يعبأ بأن يستمر في نقل قول التبريزي :
" مع قوله :
إذا ركبوا الخيل واستلأموا ========= تحرّقتِ الأرضُ ، واليومُ قَرّ "
ففي هذه الزيادة التي حسبها من الفضول الذي يريد تهذيبه خلاصة القول في معنى السناد ، وبدون هذه الزيادة لا يمكن أن تصل الفكرة أبدا .
ومن الظواهر المضحكة المبكية في تيسير الدكتور حسني أنه وهو يحاول تيسير كتاب التبريزي ظن أنه يريد أن يزيد على شواهده شواهد لم يذكرها التبريزي حين قال عن ضرب الرمل المسبّغ: " هذا الضرب قليل جدا ، إلا أنهم قد أنشدوا – وزعموا أنه لبعض أهل المدينة ، وهو عتيق - :
لانَ حتى لو مشى الذرّ===(م)===عليه كاد يدميهْ"
ونظر صاحبنا في هامش الوافي فوجد الدكتور قباوة يشير في تخريج هذا البيت إلى العقد الفريد لابن عبد ربه ، فما كان منه إلا أن فزع إلى ذلك الموضع ووجد بغيته فيه فنقلها على النحو التالي : " مصرعه لعتيق :
يا هلالا في تجنيه=====وقضيبا في تثنيه "
ثم قال : " والبيت الثاني لهذا البيت :
لان حتى لو مشى الذر=======عليه كاد يدميه "
فالدكتور حسني حسب أولا من كلام التبريزي الذي اقتبسناه أن ثمة شاعرا من أهل المدينة يسمى " عتيق " ، وهذا من المضحك ، وأما المبكي فهو أنه ظن أن هذا الشاعر الموهوم هو مؤلف القطعة الشعرية التي نظمها ابن عبد ربه في العقد لبيان ضروب البحور واعتاد أن يضمّن كل مقطعة منها بيتا من الأبيات التي استشهد بها الخليل في كتاب العروض ومنها ذلك البيت العتيق ( أي القديم ) لبعض أهل المدينة .
لقد كان للدكتور ، لو أنه لم يلجأ إلى هذا التيسير (الفضيحة) ، كتاب آخر يغنيه عن كتاب التبريزي الذي وضعه للشداة في علم العروض . وكتابه ذاك من جزئين وعنوانه " موسيقى الشعر العربي ـ دراسة فنية وموضوعية " هذا ، عدا ما له من كتب جليلة في اللغة والنحو والأدب . وكان قد ضمن كتابه في العروض (نظريته) التي حسب أنه يمكن يضيف بها جديدا في تيسيره لكتاب التبريزي حين قال : " وقد أعدت تقديم الكتابة العروضية بأسلوب المقاطع ، وقرنت ذلك بكتابة العلامات التي تقابل بها الحركات والسكنات ، وهو أسلوب يساير الهدف من الكتابة العروضية بوصفها سابقة على التفاعيل ، وليست لاحقة لها .. " .
بقي لنا أن نذكر شيئا ربما يجعلنا نلتمس البراءة به لكل من صاحبي التيسير وشرح الكافي من تهمة السطو ؛ وهو أن ما سطوا عليه كان صانعه قد سطا في الأصل على أكثر من عالم سبقوه في علمي العروض والقافية منهم الصاحب بن عباد في كتابه "الإقناع في العروض وتخريج القوافي " وابن جني في كتابه "مختصر القوافي" و"المعرب" وغيرهما من العلماء السابقين ونقل من كتبهم نقلا حرفيا من غير أن يشير لهم بذكر ، وكان هذا ديدنه في كل ما وضع من كتب ومنها شرح المفضليات الذي حققه الدكتور فخر الدين قباوة في رسالته للدكتوراه ، وقد عقب الدكتور علي جواد الطاهر على ذلك بقوله : " ولا تعدو الخلاصة في التبريزي أن يكون شارحا متأخرا ناقلا في جل شرحه ما قاله سابقوه وأتعس ما في هذا النقل أن يغمط الناقل صاحبه بأن يخفي اسمه واسم كتابه وأن يدلس لدى الذكر ، ويغالط في النقل وكأنه لا يقترب في عمله من السارق السارق " .
غير أننا ، مع علمنا بجناية التبريزي في كتاب الكافي ، نرى أنه لم يكن ينكر في كثير من كتبه أسماء العلماء الذين كان ينقل عنهم ، وقد كان هو نفسه من أشد المدافعين عن حق الملكية في الإبداع والفكر حين أنحى باللائمة على المرزوقي لأنه ذكر ابن جني بصيغة ليس فيها تصريح باسمه حين قال : " ذكر بعض المتأخرين "
ـ يعني ابن جني ـ فعقب عليه التبريزي قائلا : "ولم ينصفه حيث لم يسمه في كتابه". هذا ، وقد رأى الدكتور عبد الله عسيلان في كتابه " حماسة أبي تمام وشروحها" أن "التبريزي لم يكن مجرد ناقل ينقل كيفما اتفق ، بل كان عالما ذا بصر ودراية ووعي بما يختاره من شروح سابقيه ، وقد اختار لنا أطيب ثمارها وجناها ، كما أننا نجده أحيانا يفحص ويناقش ما ينقله .. " .
والخلاصة في موضوعنا هذا أنه سيان ما بين سارق وسارق ، وأنه لا يسعنا في هذا المقام إلا القول بأن التبريزي ـ رحمه الله ـ كان لصا شريفا ...
أما محققا الكتاب الحساني وقباوة فقد ضاع جهدهما في التحقيق وما رافقه من مشقات ومشقات هباء منثورا ، وقدما جهدهما لقمة سائغة لباحثين ما كان أغناهما عما وراءه من كسب زائل .
سليمان أبو ستة